الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قلت: كذا قالوا جميل بن معمر.وقال الزمخشريّ: جميل بن أسد الفهري.وقال ابن عباس: سببها أن بعض المنافقين قال: إن محمدًا له قلبان؛ لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأوّل؛ فقالوا ذلك عنه فأكذبهم الله عز وجل.وقيل: نزلت في عبد الله بن خَطَل.وقال الزهريّ وابن حبّان: نزل ذلك تمثيلًا في زيد بن حارثة لما تبنّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فالمعنى: كما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا يكون ولد واحد لرجلين.قال النحاس: وهذا قول ضعيف لا يصح في اللغة؛ وهو من منقطعات الزهريّ، رواه معمر عنه.وقيل: هو مثل ضرب للمُظاهر؛ أي كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المُظاهر أمَّه حتى تكون له أُمّان.وقيل: كان الواحد من المنافقين يقول: لي قلب يأمرني بكذا، وقلب يأمرني بكذا؛ فالمنافق ذو قلبين؛ فالمقصود ردّ النفاق.وقيل: لا يجتمع الكفر والإيمان بالله تعالى في قلب، كما لا يجتمع قلبان في جوف؛ فالمعنى: لا يجتمع اعتقادان متغايران في قلب.ويظهر من الآية بجملتها نفي أشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت، وإعلام بحقيقة الأمر، والله أعلم.الثانية: القلب بَضْعة صغيرة على هيئة الصَّنَوْبَرة، خلقها الله تعالى في الآدميّ وجعلها محلًا للعلم، فيحصي به العبد من العلوم ما لا يسع في أسفار، يكتبه الله تعالى فيه بالخط الإلهيّ، ويضبطه فيه بالحفظ الرّباني، حتى يحصيه ولا ينسى منه شيئًا.وهو بين لَمَّتَين: لَمَّة من المَلك ولَمَّةٌ من الشيطان؛ كما قال صلى الله عليه وسلم.خرّجه الترمذيّ، وقد مضى في البقرة.وهو محل الخَطَرات والوساوس ومكان الكفر والإيمان، وموضع الإصرار والإنابة، ومجرى الانزعاج والطمأنينة.والمعنى في الآية: أنه لا يجتمع في القلب الكفر والإيمان، والهدى والضلال، والإنابة والإصرار؛ وهذا نفي لكل ما توهمه أحد في ذلك من حقيقة أو مجاز، والله أعلم.الثالثة: أعلم الله عز وجل في هذه الآية أنه لا أحد بقلبين، ويكون في هذا طعن على المنافقين الذين تقدّم ذكرهم؛ أي إنما هو قلب واحد، فإمّا فيه إيمان وإمّا فيه كفر؛ لأن درجة النفاق كأنها متوسطة، فنفاها الله تعالى وبيَّن أنه قلب واحد.وعلى هذا النحو يستشهد الإنسان بهذه الآية، متى نسي شيئًا أو وهم.يقول على جهة الاعتذار: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.الرابعة: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهرُونَ منْهُنَّ أُمَّهَاتكُمْ} يعني قول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمّي.وذلك مذكور في سورة المجادلة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.الخامسة: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} أجمع أهل التفسير على أن هذا نزل في زيد بن حارثة.وروى الأئمة أن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت: {ادعوهم لآبَآئهمْ هُوَ أَقْسَطُ عندَ الله} وكان زيد فيما روي عن أنس بن مالك وغيره مَسْبيَّا من الشام، سبته خيل من تهامة، فابتاعه حكيم بن حزام بن خُويلد، فوهبه لعمته خديجة فوهبته خديجة للنبيّ صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبنّاه، فأقام عنده مدّة، ثم جاء عمه وأبوه يرغبان في فدائه، فقال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم وذلك قبل البعث: «خَيّراه فإن اختاركما فهو لكما دون فداء».فاختار الرق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حريته وقومه؛ فقال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه» وكان يطوف على حلَق قريش يشهدهم على ذلك، فرضي ذلك عمه وأبوه وانصرفا وكان أبوه لما سبي يدور الشام ويقول: فأخبر أنه بمكة؛ فجاء إليه فهلك عنده.وروي أنه جاء إليه فخيّره النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا وانصرف.وسيأتي من ذكره وفضله وشرفه شفاءٌ عند قوله: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] إن شاء الله تعالى.وقتل زيد بُمؤْتَةَ من أرض الشام سنة ثمانٍ من الهجرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمّره في تلك الغزاة، وقال: «إن قُتل زيد فجعفر فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة» فقتل الثلاثة في تلك الغزاة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نَعْي زيد وجعفر بكى وقال: «أخَوَاي ومؤنساي ومحدّثاي».{ادْعُوهُمْ لآبَائهمْ هُوَ أَقْسَطُ عنْدَ اللَّه}.فيه ست مسائل:الأولى: قوله تعالى: {ادعوهم لآبَآئهمْ} نزلت في زيد بن حارثة، على ما تقدّم بيانه.وفي قول ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، دليل على أن التَّبَنّي كان معمولًا به في الجاهلية والإسلام، يُتوارث به ويتناصر، إلى أن نسخ الله ذلك بقوله: {ادعوهم لآبَآئهمْ هُوَ أَقْسَطُ عندَ الله} أي أعدل.فرفع الله حكم التَّبَنّي ومنع من إطلاق لفظه، وأرشد بقوله إلى أن الأوْلى والأعدل أن يُنسب الرجل إلى أبيه نَسَبًا؛ فيقال: كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه من الرجل جلَده وظَرْفه ضمه إلى نفسه، وجعل له نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان يُنْسب إليه فيقال فلان ابن فلان.وقال النحاس: هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التبنّي، وهو من نسخ السنّة بالقرآن؛ فأمر أن يدعوا من دعوا إلى أبيه المعروف، فإن لم يكن له أب معروف نسبوه إلا وَلائه، فإن لم يكن له وَلاء معروف قال له يا أخي؛ يعني في الدين، قال الله تعالى: {إنَّمَا المؤمنون إخْوَةٌ} [الحجرات: 10].الثانية: لو نسبه إنسان إلى أبيه من التبنّي فإن كان على جهة الخطأ، وهو أن يسبق لسانه إلى ذلك من غير قصد فلا إثم ولا مؤاخذة؛ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فيمَآ أَخْطَأْتُمْ به ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}.وكذلك لو دعوت رجلًا إلى غير أبيه وأنت ترى أنه أبوه فليس عليك بأس؛ قاله قتادة.ولا يجري هذا المجرى ما غلب عليه اسم التبنّي كالحال في المقْداد بن عمرو فإنه كان غلب عليه نسب التبنّي، فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الأسود؛ فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبنّاه في الجاهلية وعرف به.فلما نزلت الآية قال المقْداد: أنا ابن عمرو؛ ومع ذلك فبقي الإطلاق عليه.ولم يُسمع فيمن مضى من عَصَّى مُطْلق ذلك عليه وإن كان متعمدًا.وكذلك سالم مولى أبي حذيفة، كان يدعى لأبي حذيفة.وغير هؤلاء ممن تُبُنّي وانْتُسب لغير أبيه وشُهر بذلك وغَلب عليه.وذلك بخلاف الحال في زيد بن حارثة؛ فإنه لا يجوز أن يقال فيه زيد بن محمد، فإن قاله أحد متعمّدًا عصى لقوله تعالى: {ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي فعليكم الجناح.والله أعلم.ولذلك قال بعده: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحيمًا} أي {غَفُورًا} للعمد، و{رَحيمًا} برفع إثم الخطأ.الثالثة: وقد قيل: إن قول الله تبارك وتعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فيمَآ أَخْطَأْتُمْ} مُجْمَل؛ أي وليس عليكم جناح في شيء أخطأتم، وكانت فُتْيَا عطاء وكثيرٍ من العلماء.على هذا إذا حلف رجل ألاّ يفارق غريمه حتى يستوفي منه حقه، فأخذ منه ما يرى أنه جيّد من دنانير فوجدها زيوفًا أنه لا شيء عليه.وكذلك عنده إذا حلف ألا يسلّم على فلان فسلّم عليه وهو لا يعرفه أنه لا يحنث؛ لأنه لم يتعمد ذلك.وما في موضع خفض ردًّا على ما التي مع {أَخْطَأْتُمْ}.ويجوز أن تكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ؛ والتقدير: ولكن الذي تؤاخَذون به ما تَعمّدت قلوبكم.قال قتادة وغيره: من نسب رجلًا إلى غير أبيه، وهو يرى أنه أبوه، خطًا فذلك من الذي رفع الله فيه الجناح.وقيل: هو أن يقول له في المخاطبة: يا بنيّ؛ على غير تَبَنٍّ.الرابعة: قوله تعالى: {ذَلكُمْ قَوْلُكُم بأَفْوَاهكُمْ} {بأَفْوَاهكُمْ} تأكيد لبطلان القول؛ أي أنه قول لا حقيقة له في الوجود، إنما هو قول لسانيّ فقط.وهذا كما تقول: أنا أمشي إليك على قَدَم؛ فإنما تريد بذلك المبرّة.وهذا كثير.وقد تقدّم هذا المعنى في غير موضع.{والله يَقُولُ الحق} {الحقّ} نعت لمصدر محذوف؛ أي يقول القول الحق.و{يَهْدي} معناه يبين؛ فهو يتعدى بغير حرف جرّ.الخامسة: الأدعياء جمع الّدعيّ، وهو الذي يدعى ابنًا لغير أبيه أو يدّعي غير أبيه؛ والمصدر الدّعْوة بالكسر؛ فأمر تعالى بدعاء الأدعياء إلى آبائهم للصُّلْب، فمن جهل ذلك فيه ولم تشتهر أنسابهم كان مَوْلًى وأخًا في الدّين.وذكر الطبريّ أن أبا بكرة قرأ هذه الآية وقال: أنا ممن لا يُعرف أبوه، فأنا أخوكم في الدّين ومولاكم.قال الراوي عنه: ولو علم واللَّه أن أباه حمار لانتمى إليه.ورجال الحديث يقولون في أبي بكرة: نُفَيع بن الحارث.السادسة: روى الصحيح عن سعد بن أبي وَقّاص وأبي بكرة كلاهما قال: سَمعَتْه أذناي ووعاه قلبي محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول: «من ادّعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام» وفي حديث أبي ذرّ أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس من رجل ادّعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر». اهـ.
|